بالجودة

قصة قصيرة: أحمد أبو القاسم
نظرتها كانت تقتله بالكيّ, أسهم نارية كانت تسقط من عينها لتكوي جلده .
كان الطريق بين باب غرفته وباب الدار ألف ميل.
حاول أن يتقي سهامها قدر استطاعته, ولو أستطاع أن يهرول في جلبابه قبل أن يهرول في مشيته لفعلها, لم يخش _عند اتخاذ القرار _ إلا هي !
عند عتبة الدار جلست القرفصاء تسند رأسها _خشية السقوط _ بكفها الأيسر وقد ارتسمت علي وجهها الممتلئ بالتجاعيد ألف صورة للغضب المكسو بالحزن الدفين .
كانت _علي غير عادتها _ تتسربل في فستان”كستور “ٍ بألوان زاهية , وقد خلعت عنها الأسود بعد سبع سنوات من التصاقه بجسدها الذي صار نحيلا من قلة الزاد..
_(فين سوادك راح ).أحتبس سؤاله داخله , كان يعرف الإجابة مسبقا ! خلعته إعلانا منها أن (الميت كلب) لا يستحق الحزن ,كانت توبخه علي قبوله الصلح في دم أبيه , ولكن بطريقتها التي لن يفهمها سواه!
أسرع الخطي أكثر حتى جاوز باب الدار ,ألقي نظرته الأخيرة عليها ,كانت تتوقعه فأشارت له بأصبعها الأوسط في امتهان لم يسبق لها أبدا .
أسلم ساقيه للرياح وأنطلق للقاء مدير الأمن وشيخ الأزهر في الدوار .
____________________________________
الأبيض ,لون العار _في شريعته _ ,الأحمر يليق به .
نظر لكفنه المسجي أمامه علي الجريد الأخضر , نظر لجسده في خوف وتردد واضحين, قاوم رغبته الصادقة في البكاء , أما الكفن أو رقبته _تحسس عروقها أيضا _ ,وأنهار _للمرة المليون _ في بحر من الذكريات .
سبع سنوات عجاف .!!
مقتل “الديب ” أشهر تاجر للآثار علي يد عمه ,بعد اختلافهما في تقسيم ربح “بيعة أنتيكة “.
هروب عمه مع “خوجاية ” وانقطاع أخباره .
وقوع الاختيار عليه ليكون ضحية الثأر .
تحويل أوراقه من أسيوط لجامعة الإسكندرية , من ثم انقطاعه عن الدراسة بسبب التهديدات .
هربه _بتأشيرة مزورة _ وترحيله .
تحسس رقبته أكثر وأكثر .
عودته تحت الضغط لرؤيته أخته قبل رحيلها ,وتركه لعزائها خوفا علي حياته .
حبيبته تزوجت _تحت الضغط _ من أبن عمومته , قالت له معتذرة (انت محكوم عليك بالإعدام ).
أصابه دوار فجلس بجوار الكفن .
سبع سنوات تمني فيهم الموت في كل لحظة هروب , تمني فعلا أن يصبه “عيار ” طائش ينتزعه من رغبته في الحياة , لكنهم لم يفعلوا .
الموت أهون كثيرا من الهروب للحياة .
(حياة ) .!! أو كانت حقا حياة ؟!
نظر للكفن مليا , غاص في بياضه , كم تمناه يلف جسده _بمشيتهم لا بمشيته _ , لكنها غريزة البقاء …الملعونة .!
خلع جلبابه وارتدي كفنه ,نظر للمرأة , تمني لو يدخل أحدهم عليه ويطعنه من الخلف فيريحه من الحياة ونظرات العار .
فتحت عليه الباب فرأته مرتديا كفنه ,فغمغمت في حسرة
(ياريتك مت ولبستهولك بايدي ولا الذل اللي جبتهولنا ).
وقع صوتها _الميت_ عليه فاستدار مدافعا عن نفسه
(يا أمه أصل.. )
قاطعته في حزم (اسكت يا عرص ).
هرولت خارجة ,وأغلقت الباب خلفها في حدة .
بكي كما لم يبك من قبل , كم آلمته دون أن تدري , أو علها تدري …
خلع كفنه وارتدي جلبابه مقلوبا , وحمله علي راحته وخرج من الباب دون ان ينظر لأحد .
رجال الامن كالذباب في انتشاره .
علي المنصة جلس شيخ الأزهر ومدير الامن ووجهاء البلد
طيلة الطريق كان “علام ” بجلبابه المقلوب محتضنا كفنه , مترجلا حافي الأقدام , ملاحق بالنكات والشتائم .
وكلما ازدادت الشتائم ,زاد احتضانه لكفنه .
بين يدي (أحمد ) ارتمي حاملا كفنه ,فغمغم شيخ الأزهر .
(هل تقبل يا سيد أحمد العفو عن حقك _بالجودة _ ؟)
نظر له أحمد نظرة ذات مغزى وقعت في قلبه فأسكتته للأبد .!!!
قبل أن يجيب “أحمد ” كان “علام ” قد أنفرش جسده معلنا مغادرة روحه المكان , ولكن أصابع يده مازالت متشبثة ببياض الكفن .